فصل: فصل أسباب الخطأ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صيد الخاطر **


  فصل عشاق الدنيا

رأيت سبب الهموم والغموم الإعراض عن الله عز وجل والإقبال على الدنيا‏.‏

وكلما فات منها شيء وقع الغم لفواته‏.‏

فأما من رزق معرفة الله تعالى استراح لأنه يستغني بالرضا بالقضاء فمهما قدر له رضي‏.‏

وإن دعا فلم ير أثر الإجابة لم يختلج في قلبه اعتراض لأنه مملوك مدبر فتكون همته في خدمة الخالق‏.‏

ومن هذه صفته لا يؤثر جمع مال ولا مخالطة الخلق ولا الالتذاذ بالشهوات‏.‏

لأنه إما أن يكون مقصراً في المعرفة فهو مقبل على التعبد المحض يزهد في الفاني لينال الباقي‏.‏

وإما أن يكون له ذوق في المعرفة فإنه مشغول عن الكل بصاحب الكل‏.‏

فعيشه معه كعيش محب قد خلا بحبيبه لا يريد سواه ولا يهتم بغيره‏.‏

فأما من لم يرزق هذه الأشياء فإنه لا يزال في تنغيص متكدر العيش لأن الذي يطلبه من الدنيا لا يقدر عليه فيبقى أبداً في الحسرات مع ما يفوته من الآخرة بسوء المعاملة نسأل الله عز وجل أن يستصلحنا له فإنه لا حول ولا قوة إلا به‏.‏

  فصل الدنيا مثار القلق

إن اعتمدت على الزوجة لم تكن كما أريد‏.‏

إن حسنت صورتها لم تكمل أخلاقها وإن تمت أخلاقها كانت مريدة لغرضها لا لي‏.‏

ولعلها تنتظر رحيلي‏.‏

وإن اعتمدت على الولد فكذلك والخادم والمريد لي كذلك فإن لم يكن لهما مني فائدة لم يريداني‏.‏

وأما الصديق فليس ثم وأخ في الله كعنقاء مغرب ومعارف يفتقدون أهل الخير ويعتقدون فيهم قد عدموا وبقيت وحدي‏.‏

وعدت إلى نفسي - وهي لا تصفوا إلي أيضاً ولا تقيم على حالة سليمة - فلم يبق إلا الخالق سبحانه فرأيت أني اعتمدت على إنعامه فما آمن ذلك البلاء وإن رجوت عفوه فما آمن واقلقي من قلقي واحرقي من حرقي‏.‏

بالله ما العيش إلا في الجنة حيث يقع اليقين بالرضا والمعاشرة لمن لا يخون ولا يؤذي‏.‏

فأما الدنيا فما هي دار ذاك‏.‏

  فصل حقائق الناس

ينبغي لمن صحب سلطاناً أو محتشماً أن يكون ظاهره معه وباطنه سواء فإنه قد يدس إليه من يخبره فربما افتضح في الابتلاء‏.‏

وقد كان جماعة من الملوك يقصدون تقريب المنادم ويجعلون له حجرة في دورهم فإذا أرادوا أن يختصوه اختبروه باطناً وذاك لا يدري فيظهر منه ما لا يصلح فيطرد‏!‏‏.‏

ولقد امتحن أبرويز رجلاً من خاصته فدس إليه جارية معها ألطاف وأمرها أن لا تقعد عنده فحملتها‏.‏

ثم أنفذها مرة أخرى وأمرها أن تقعد بعد التسليم هنيهة ففعلت فلاحظها الرجل‏.‏

ثم بعثها ثالثة وأمرها أن تطيل القعود عنده وتحدثه فأطالت الحديث معه فأبدى لها شيئاً من الميل إليها فقالت‏:‏ أخاف أن يطلع علينا ولكن دعني أدبر في هذا‏.‏

فذهبت فأخبرت الملك بذلك فوجه غيرها من خواص جواريه بمثل ذلك فلما جاءته قال‏:‏ ما فعلت فلانة قالت مريضة فاربد لونه‏.‏

ثم فعلت الجارية الثانية مثل ما فعلت الأولى فقالت له‏:‏ إن الملك يمضي إلى بستانه فيقيم هناك‏.‏

فإن أدرك على أن تمضي معه فأظهر أنك عليل‏.‏

فإن خيرك بين الانصراف إلى دور نسائك أو المقام هنا فاختر المقام ههنا وأخبره أنك لا تقدر على الحركة‏.‏

فإن أجابك إلى ذلك جئت إليك كل ليلة ما دام الملك غائباً فسكن إلى قولها ثم مضت وأخبرت الملك بذلك‏.‏

فلما كان بعد ثلاث استدعاه الملك فقال‏:‏ إني مريض‏.‏

فعاد الرسول فأخبره فتبسم‏.‏

وقال‏:‏ أول الشر‏.‏

فوجه إليه محفة حمل فيها إليه فلما بصر به أبرويز قال‏:‏ والمحفة الشر الثاني‏.‏

فرأى العصابة على رأسه‏.‏

قال‏:‏ والعصابة الشر الثالث‏.‏

فقال له الملك‏:‏ أيهما أحب إليك الانصراف إلى نسائك ليمرضنك أو المقام ههنا إلى وقت رجوعي قال‏:‏ المقام ههنا أرفق لي لقلة الحركة فتبسم وقال‏:‏ حركتك ههنا إن تركت أكثر من حركتك إلى منزلك‏.‏

ثم أمر له بعصا الزناة التي كان يوسم بها من زنا‏.‏

فأيقن الرجل بالأمر وأمر أن يكتب ما كان من أمره حرفاً حرفاً فيقرأ على الناسر حرفاً حرفاً إذا حضروا وأن ينفى إلى أقصى المملكة وتجعل العصا على رأس رمح يكون معه حيث كان ليحذر منه من لا يعرفه‏.‏

فلما نفي أخذ من بعض الموكلين مدية فجب بها ذكره وقال‏:‏ ومات من ساعته‏.‏

قلت‏:‏ وقد كان جماعة من الأمراء يتنكرون ويسألون العوام عن سيرتهم فيتكلم العامي بما لا يصلح فيضبطونه وربما بعثوا دسيساً عليه‏.‏

ورب كلمات قالها مسترسل فبلغها فضولي فأهلكت صاحبها‏.‏

ورأى عمر بن عبد العزيز رجلاً من العمال كثير الصلاة فدس عليه من قال له‏:‏ إن أخذت لك الولاية الفلانية فما تعطيني قال‏:‏ أعطيتك كذا وكذا قال له عمر‏:‏ غررتنا بصلاتك‏.‏

وقد بلغت أن رجلاً كلم امرأة فأجابته فاستدعته إلى دارها فلما دخل أقامت على قتله‏.‏

فقد ينجلي من هذه الحكاية أنه لا ينبغي أن يسكن إلى قول امرأة أو بعل يجوز أنه يكون وكذلك لا يظهر ما ينبغي إخفاؤه من مال أو مذهب أو سب رجل فربما كان له في الحاضرين قريب‏.‏

ولا يوثق بمودة لا أصل لها فربما كانت تحتها آفة تقصده‏.‏

وليحذر من كل أمر يحتمل‏.‏

ورب كلمة نقلها صديق إلى صديق فتحث بها من لا يقصد أذى للقائل فبلغت فتأذى‏.‏

ورب مظهر للمحبة مبالغ حتى يستمكن من مراده‏.‏

فالحذر الحذر من الطمأنينة إلى أحد خصوصاً من عدو آذيته أو قتلت له قريباً‏.‏

فربما أظهر الجميل شبكة لاصطيادك كحديث الزباء‏.‏

  فصل عجز الشيخوخة

رأيت النفس بعد علو السن يقوى أملها ويزداد حرصها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

يشيب ابن آدم وتشب منه خصلتان‏:‏ الحرص والأمل‏.‏

ورأيت أكثر أسباب ذلك فراغ اليد من الدنيا وكثرة العائلة وقوة الحاجة‏.‏

فيحتاج الإنسان إلى التعرض بما يشين العرض ليحصل الغرض‏.‏

واأسافا أيطلع فجر النحر وما وصلت إلى عرفات ويا ضياع سفر العم وما حصل المقصود‏:‏ قد كنت أرجوك لنيل المنى واليوم لا أطلب إلاَّ الرضى ثم قلت‏:‏ يا نفس ما لك ملجأ إلا اللجأ واستغاثة الغريق‏.‏

فإن رحمت وإلا فكم من حسرة تحت التراب‏.‏

  فصل الاشتغال عن الهوى

شكا لي بعض الأشياخ فقال‏:‏ قد علت سني وضعفت قوتي ونفسي تطلب مني شراء الجوار الصغار‏.‏

ومعلوم أنهن يردن النكاح وليس فيّ‏.‏

ولا تقنع مني النفس بربة البيت إذ قد كبرت‏.‏

فقلت له‏:‏ عندي جوابان‏:‏ أحدهما الجواب العامي وهو أن أقول‏:‏ ينبغي أن تشتغل بذكر الموت وما قد توجهت إليه وتحذر من اشتراء جارية لا تقدر على إيفاء حقها فإنها تبغضك فإن أجهدت استعجلت التلف‏.‏

وإن استبقيت قوتك غضبت هي على أنها لا تريد شيخاً كيف كان‏.‏

أفق يا فؤادي من غرامك واستمع مقالة محزون عليك شفيق علقت فتاة قلبها متعلق بغيرك فاستوثقت غير وثيق وأصبحت موثوقاً وراحت طليقة فكم بين موثوق وبين طليق فاعلم أنها تعد عليك الأيام وتطلب منك فضل المال لتستعد لغيرك‏.‏

وربما قصدت حتفك فاحذر والسلامة في الترك والاقتناع بما يدفع الزمان‏.‏

والجواب الثاني فإني أقول‏:‏ لا يخلو أن تكون قادراً على الوطء في وقت أو لا تكون‏.‏

فإن كنت لا تقدر فالأولى مصابرة الترك للكل‏.‏

وإن كان يمكن الحازم أن يداري المرأة بالنفقة وطيب الخلق إلا أنه يخاطر‏.‏

وإن كنت تقدر في أوقات على ذلك ورأيت من نفسك توقاً شديداً فعليك فالمراهقات فإنهن ما عرفن النكاح وما طلبن الوطء وأغمرهن بالإنفاق وحسن الخلق مع الاحتياط عليهن والمنع من مخالطة النسوة‏.‏

وإذا اتفق وطء فتصبر عن الإنزال ريثما تقضي المرأة حاجتها‏.‏

واعتدم وعظها وتذكيرها بالآخرة واذكر لها حكايات العشاق من غير نكاح وقبح صورة الفعل ولفت قلبها إلى ذكر الصالحين ولا تخل نفسك من الطيب والتزين والكياسة والمداراة فهذا ربما حرك الناقة للمسير مع خطر السلامة‏.‏

  فصل الحكم بعد تريث

أبله الناس من عمل على الحال الحاضرة ولم يتصور تغيرها ولا وقوع ما يجوز وقوعه‏.‏

مثاله أن يغتر بدولة فيعمل بمقتضى ملكه فإذا تغيرت هلك‏.‏

وربما عادى خلقاً اغتراراً بأنه متسلط أو أنه صاحب سلطان فإذا تغيرت حاله أكل كفيه ندماً عند فوات التدارك‏.‏

وكذلك من له مال يبذره سكوناً إلى وجود المال وينسى حاله عند العدم‏.‏

وكذا من يتناول الشهوات ويكثر من المآكل والمشارب والنكاح ثقة بعافيته وينسى ما يعقب ذلك من الأمراض والآفات‏.‏

ومن أظرف الأحوال أن يحب جاريته فيعتها ويهب لها أو امرأة فيسكن إليها ويهب لها فتتمكن ولا تمضي الأيام حتى يسلوها أو يطلب غيرها ولا يجد طريقاً للخلاص‏.‏

فإن تخلص منها أخذت ما غنمت منه فلقي من الغيظ أضعاف ما يلتذ به‏.‏

فلا ينبغي أن يوثق بامرأة ولا بمحبة إنسان فإنه قد يحب امرأة ويظن أنه لا يسلوها أبداً وربما أحب غيرها فينسى الأولى فيصعب عليه الخلاص من الأولى‏.‏

فالعاقل لا يدخل في شيء حتى يهيء الخروج منه فإن الأشياء لا تثبت والمحبة لا تدوم والتغير مقرون بكل حال‏.‏

وكذلك يعطي ماله ولده ثم يبقى كلاً عليه فيتمنى الولد هلاكه وربما عل به في النفقة‏.‏

وكذلك قد يثق بالصديق فيبث أسراره إليه فربما أظهر ذلك فكان منها ما يوجب هلاكه‏.‏

وكذلك يغتر الإنسان بالسلامة وينسى طروق الموت فيأتيه بغتة فيبتهته وقد فات الاستدراك ولم يبق إلا الندم‏.‏

فالعاقل من كانت عينه مراقبة للعواقب محترزة مما يجوز وقوعه عاملة بالاحتياط في كل حال حافظة للمال والسر غير واثقة بزوجة ولا ولد ولا صديق متأهبة للرحيل متهيئة للنقلة‏.‏

هذه صفة أهل الحزم‏.‏

  فصل التسليم واليقين

من أعجب الأمور طلب الاطلاع على تحقيق العرفان لذات الله عز وجل وصفاته وأفعاله وهيهات ليس إلا المعرفة بالجملة‏.‏

وكذلك أصحاب الرأي مالوا إلى القياس فإذا أشياء كثيرة بعكس مرادهم فلم يجدوا ملجأ إلا التسليم فسموا ما خالفهم استحساناً‏.‏

الفقيه من علل بما يمكن فإذا عجز استطرح للتسليم هذا شأن العبيد‏.‏

فأما من يقول لم فعل كذا وما معنى كذا فإنه يطلب الاطلاع على سر الملك وما يجد إلى ذلك سبيلاً لوجهين‏:‏ أحدهما أن الله تعالى ستر كثيراً من حكمه عن الخلق‏.‏

والثاني أنه ليس في البشر إدراك حكم الله تعلى كلها فلا يبقى مع المعترض سوى الاعتراض المخرج إلى الكفر ‏"‏ فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ ‏"‏‏.‏

والمعنى من رضي بأفعالي وإلا فليخنق نفسه فما أفعل إلا ما أريد‏.‏

  فصل أثر المخالطة

من رزقه الله تعالى العلم والنظر في سير السلف رأى أن هذا العالم ظلمة‏.‏

وجمهور العالم على غير الجادة والمخالطة لهم تضر ولا تنفع‏.‏

فالعجب لمن يترخص في المخالطة وهو يعلم أن الطبع يسرق من المخالطة‏.‏

فأما مخالطة الدون فإنها تؤذي إلا أن يكون عامياً يقصد من يعلمه فينبغي أن يخالط بالاحتراز‏.‏

وفي هذا الزمان إن وقعت المخالطة للعوام عكرت الفؤاد فهم ظلمة مستحكمة فإذا ابتلى العالم بمخالطتهم فليشمر ثياب الحذر ولتكن مجالسته إياهم للتذكرة والتأديب فحسب‏.‏

وإن وقعت المخالطة للعلماء فأكثرهم على غير الجادة مقصودهم صورة العلم لا العمل به‏.‏

فلا تكاد ترى من تذاكره أمر الآخرة إنما شغلهم الغيبة وقصد الغلبة واجتلاب الدنيا‏.‏

ثم فيهم من الحسد للنظراء ما لا يوصف‏.‏

وإن وقعت المخالطة للأمراء فذاك تعرض لفساد الدين‏.‏

لأنه إن تولى لهم ولاية دنيوية فالظلم من ضروراتها لغلبة العادة عليهم والإعراض عن الشرع‏.‏

وإن كانت ولاية دينية كالقضاء فإنهم يأمرونه بأشياء لا يكاد يمكنه المراجعة فيها ولو راجع لم يقبلوا‏.‏

وأكثر القوم يخاف على منصبه فيفعل ما أمر به وإن لم يجبر‏.‏

وربما رأيت في هذا الزمان أقواماً يبذلون المال ليكونوا قضاة أو شهوداً ومقصودهم الرفعة‏.‏

ثم أكثر الشهود يشهد على من لا يعرفه ويقول إنه معروف ويدري أنه كذاب وإنما عرف لأجل وكم قد وقعت شهادة على غير المشهود عليه أو على مكره‏.‏

وإن وقعت المخالطة للمتزهدين فأكثرهم على غير الجادة وعلى خلاف العلم قد جعلوا لأنفسهم نواميس فلا يتنسمون ولا يخرجون إلى سوق ويظهرون التخشع الزائد وكله نفاق‏.‏

وفيهم من يلبس الصوف تحت ثيابه وربما يوح بكمه ليرى‏.‏

وقد حكي عن طاهر بن الحسين أنه قال لبعض المتزهدين‏.‏

مذ كم قدمت العراق قال‏:‏ دخلتها منذ عشرين سنة وأنا منذ ثلاثين سنة صائم‏.‏

قال‏:‏ سألناك عن مسألة فأجبت عن اثنتين‏.‏

وبيوت الصوفية أربطة فهي خوارج على المساجد‏.‏

وهي دكاكين كريهة يقعد فيها الكسالى عن الكسب مع القدرة عليه ويتعرضون بالقعود للصدقات ولأحوال الظلمة‏.‏

وقد أراحوا أنفسهم من إعادة العلم‏.‏

وأكثرهم لا يصلي نافلة ولا يقوم الليل بل يهمهم المأكول والمشروب والرقص‏.‏

وقد اتخذوا سنناً تخالف الشريعة فهم يلبسون المرقع لا من فقر‏.‏

وهذا قبيح‏.‏

لأنه ليس عندهم من أمارات الزهد سوى الملبس الدون فثيابهم تصيح نحن زهاد وباقي أفعالهم فالمطب دائر والحمام والحلوى كثيرة والطيب والدعة والكبر حاصل بذلك الزي‏.‏

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمالك بن فضلة وقد رآه أشعث الهيئة‏.‏

أما لك مال قال بلى من كل المال آتاني الله عز وجل‏!‏ قال‏:‏ فإن الله عز وجل إذا أنعم على عبد نعمة أحب أن ترى عليه‏.‏

ومن أخلاقهم تنفير الناس من العلم ويزعمون أن لا حاجة إلى الوسائط وإنما هو قلب ورب‏.‏

ولهم من الأقوال والأفعال المنكرات ما قد ذكرته في تلبيس إبليس‏.‏

آه لو كان للزمان عمر لاحتاج كل يوم إلى مائة درة لا بل كان يستعمل السيف في هؤلاء الخوارج‏.‏

وهم داخل البلد لا قدرة للعلماء عليهم إذ قولهم فيهم لا يقبل‏.‏

فمن رزقه الله سبحانه النظر في سير السلف ووفقه للاقتداء بهم آثر أن يعتزل عن أكثر الخلق ولا يخالطهم فإنه من خالطهم أوذي‏.‏

ومن دارهم لم يسلم من المداهنة فالنصح اليوم مردود‏.‏

  فصل التأني في معاملة الناس

وإنما ينبغي إن عرفت حاله أن تظهر له ما يوجب السلامة بينكما‏.‏

إن اعتذر قبلتن وإن أخذ الخصومة صفحت‏.‏

وأريت أن الأمر قريب‏.‏

ثم تبطن الحذر منه فلا تثق به في حال وتتجافاه باطناً مع إظهار المخالطة في الظاهر‏.‏

فإذا أردت أن تؤذيه فأول ما تؤذيه به إصلاحك لنفسك واجتهادك في علاج ما يعرفك به‏.‏

ومن أعظم العقوبة له العفو عنه الله‏.‏

وإن بالغ في السب فبالغ في الصفح تنب عنك العوام في شتمه ويحمدك العلماء على حلمك‏.‏

وما تؤذيه به من ذلك وتورثه به الكمد ظاهراً وغيره في الباطن أضعاف وخير مما تؤذيه به من كلمة إذا قلتها له سمعت أضعافها‏.‏

ثم بالخصومة تعلمه أنك عدوه فيأخذ الحذر ويبسط اللسان وبالصفح يجهل مما في باطنك فيمكنك حينئذ أن تشتفي منه أما أن تلقاه بما يؤذي دينك هو الذي قد اشتفى منك‏.‏

وما ظفر قط من ظفر به الإثم بل الصفح الجميل‏.‏

وإنما يقع هذا ممن يرى أن تسليطه عليه إما عقوبة لذنب أو لرفع درجة بالابتلاء فهو لا يرى الخصم وإنما يرى القدرة‏.‏

إذا وقعت في محنة يصعب الخلاص منها فليس لك إلا الدعاء واللجأ إلى الله بعد أن تقدم التوبة من الذنوب‏.‏

فإن الزلل يوجب العقوبة فإذا زال الزلل بالتوبة من الذنوب ارتفع السبب‏.‏

فإذا ثبت ودعوت ولم تر للإجابة أثراً فتقد أمرك فربما كانت التوبة ما صحت فصصحها ثم ادع ولا تمل من الدعاء‏.‏

فربما كانت المصلحة في تأخير الإجابة وربما لم تكن المصلحة في الإجابة فأنت تثاب وتجاب إلى منافعك‏.‏

ومن منافعك أن لا تعطي ما طلبت بل تعوض غيره‏.‏

فإذا جاء إبليس فقال كم تدعوه ولا ترى إجابة فقل أنا أتعبد بالدعاء‏.‏

وأنا موقن أن الجواب حاصل‏.‏

غير أنه ربما كان تأخيره لبعض المصالح فهو يجيء في وقت مناسب ولو لم يحصل حصل التعبد والذل‏.‏

فإياك أن تسأل شيئاً إلا وتقرنه بسؤال الخيرة‏.‏

فرب مطلوب من الدنيا كان حصوله سبباً للهلاك‏.‏

وإذا كنت قد أمرت بالمشاورة في أمور الدنيا ليبين صاحبك لك في بعض الآراء ما يعجز رأيك عنه وترى أن ما وقع لك لا يصلح فكيف لا تسأل الخير ربك وهو أعلم المصالح والاستخارة من حسن المشاورة‏.‏

  فصل أقسام الناس

نظرت إلى الناس فرأيتهم ينقسمون بين عالم وجاهل‏.‏

فأما الجهال فانقسموا فمنهم سلطان قد ربي في الجهل ولبس الحرير وشرب الخمور وظلم الناس وله عمال على مثل حاله فهؤلاء بمعزل عن الخير بالجملة‏.‏

ومنهم تجار همتهم الاكتساب وجمع الأموال وأكثرهم لا يؤدي الزكاة ولا يتحاشى من الربا‏.‏

فهؤلاء في صور الناس‏.‏

ومنهم أرباب معاش يطففون المكيال ويخسرون الميزان ويبخسون الناس ويتعاملون بالربا وهم في الأسواق طول النهار لا همة لهم إلا ما هم فيه‏.‏

فإذا جاء الليل وقعوا نياماً كالسكارى فهمة أحدهم ما يأكل ويلتذ به وليس عندهم من الصلاة خبر فإن صلى أحدهم نقرها أو جمع بينهما فهؤلاء في عداد البهائم‏.‏

ومن الناس ذو رذالة في جميع أحوالهم فهذا كالناس وهذا زبال وهذا نخال وهذا يكسح الحش فهؤلاء أرذل القوم‏.‏

ومنهم من يطلب اللذات ولا يساعده المعاش فيخرج إلى قطع الطريق وهؤلاء أحمق الجماعة إذ لا عيش لهم‏.‏

فإن التذوا لحظة بأكل أو شرب فحركت الريح قصبة هربوا خوفاً من السلطان وما أقل بقاءهم ثم القتل والصلب مع إثم الآخرة‏.‏

ومنهم أرباب قرى قد عمهم الجهل وأكثرهم لا يتحاشى من نجاسة فهم في زمرة البقر‏.‏

ورأيت النساء ينقسمن أيضاً فمنهن المستحسنة التي تبغي‏.‏

ومنهن الخائنة لزوجها في ماله‏.‏

ومنهن من لا تصلي ولا تعرف شيئاً من الدين فهؤلاء حشو النار‏.‏

فإذ سمعن موعظة فإنها كما مرت على حجر‏.‏

وإذا قرىء عندهن القرآن فكأنهن يسمعن السمر‏.‏

وأما العلماء فالمبتدئون منهم ينقسمون إلى ذي نية خبيثة يقصد بالعلم المباهاة لا العمل ويميل إلى الفسق ظناً أن العلم يدفع عنه وإنما هو حجة عليه‏.‏

وقليل من العلماء من تسلم له نيته ويحسن قصده‏.‏

فمن أراد الله به خيراً رزقه حسن القصد في طلب العلم فهو يحصله لينتفع به وينفع ولا يبالي بعمل مما يدله عليه العلم‏.‏

فتراه يتجافى أرباب الدنيا ويحذر مخالطة العوام ويقنع بالقليل خوفاً من المخاطرة في الدنيا في تحصيل الكثير‏.‏

ويؤثر العزلة فليس مذكراً للآخرة مثلها‏.‏

وليس على العالم أضر من الدخول على السلاطين فإنه يحسن للعالم الدنيا ويهون عليه المنكر‏.‏

وربما أراد أن ينكر فلا يصح له فإن عدم القناعة وتقلبت نفسه في طلب فضول الدنيا فهيهات أن يسلم منها لأنه يتعرض بأربابها‏.‏

وإن الإنسان ليمشي في السوق ساعة فينسى بما يرى ما يعلم‏.‏

فكيف إذا انضم إلى ذلك التردد إلى الأغنياء والطمع في أموالهم‏.‏

فأما الوحدة فإنها سبب رجوع القلب وجمع الهم والنظر في العواقب والتهيؤ للرحيل وتحصيل الزاد‏.‏

فإذا انضمت إليها القناعة جلبت الأحوال المستحسنة‏.‏

فأما مجالسة العلماء فمخاطرة إذ لا يجتمعون على ذكر الآخرة في الأغلب‏.‏

ومجالسة العوام فتنة للدين إلا أن يحترز في مجالسهم ويمنعهم من القول فيقول هو ويكلفهم السماع‏.‏

ثم يستوفز للبعد عنهم ولا يمكن الانقطاع الكلي إلا بقطع الطمع‏.‏

ولا ينقطع الطمع إلا بالقناعة باليسير أو يتميز بتجارة أو أن يكون له عقار يستغله‏.‏

فإنه متى احتاج تشتت الهم ومتى انقطع العالم عن الخلق وقطع طمعه فيهم وتوفر على ذكر الآخرة فذاك الذي ينفع وينتفع به‏.‏

والله الموفق‏.‏

  فصل مهر الجنة

من تأمل بعين الفكر دوام البقاء في الجنة في صفاء بلا كدر ولذات بلا انقطاع وبلوغ كل مطلوب للنفس والزيادة مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر من غير تغيير ولا زوال إذ لا يقال ألف ألف سنة ولا مائة ألف ألف بل ولو أن الإنسان عد الألوف ألوف السنين لا ينقضي عدده‏.‏

وكان له نهاية فبقاء الآخرة لا نفاد له‏.‏

إلا أنه لا يحصل ذلك إلا بنقد هذا العمر‏.‏

وما مقدار عمر غايته مائة سنة منها خمسة عشر صبوة وجهل وثلاثون بعد السبعين - إن حصلت - ضعف وعجز‏.‏

والتوسط نصف نوم وبعضه زمان أكل وشرب وكسب والمنتحل منه للعبادات يسير‏.‏

أفلا يشتري ذلك الدائم بهذا القليل إن الإعراض عن الشروع في هذا البيع والشراء لغبن فاحش في العقل وخلل داخل في الإيمان بالوعد‏.‏

فإن من يدري كيف يعقد البيع بالعلم هو الذي يدل على الطريق ويعرف ما يصلح لها ويحذر من فظاعتها‏.‏

ولقد دخل إبليس على طائفة من المتزهدين بآفات أعظمها أنه صرفهم عن العلم‏.‏

فكأنه شرع في إطفاء المصباح ليسرق في الظلمة حتى أنه أخذ قوماً من كبار العلماء فسلك بهم من ذلك ما ينهي عنه العلم‏.‏

فرأيت أبا حامد الطوسي يحكي عن نفسه في بعض مصنفاته قال‏:‏ شاورت متبوعاً مقدماً من الصوفية في المواظبة على تلاوة القرآن فمنعني منه وقال‏:‏ السبيل أن تقطع علائقك من الدنيا بالكلية بحيث لا يلتفت قلبك إلى أهل وولد ومال وعلم بل تصير إلى حالة يستوي عندك وجود ذلك وعدمه‏.‏

ثم تخلو بنفسك في زاوية فتقتصر من العبادة على الفرائض والرواتب وتجلس فارغ القلب ولا تزال تقول‏:‏ الله الله إلى أن تنتهي إلى حالة لو ترك تحريك اللسان رأيت كأن الكلمة جارية على لسانك‏.‏

ثم تنظر ما يفتح عليك مما فتح مثله على الأنبياء والأولياء‏.‏

قلت‏:‏ وهذا أمر لا أتعجب أنا فيه من الموصى به وإنما أتعجب من الذي قبله مع معرفته وفهمه‏.‏

وهل يقطع الطريق بالإعراض عن تلاوة القرآن‏.‏

وله فتح للأنبياء ما فتح بمجاهدتهم ورياضتهم‏.‏

وهل يوثق بما يظهر من هذه المسالك‏.‏

ثم ما الذي يفتح‏.‏

أثم اطلاع على علم الغيب أم هو وحي‏.‏

‏.‏

‏.‏

فهذا كله من تلاعب إبليس بالقوم‏.‏

وربما كان ما يتخايل لهم من أثر الماليخوليا أو من إبليس‏.‏

فعليك بالعلم‏.‏

وانظر في سير السلف هل فعل أحد منهم من هذا شيئاً أو أمر به‏.‏

وإنما تشاغلوا بالقرآن والعلم فدلهم على إصلاح البواطن وتصفيتها‏.‏

نسأل الله عز وجل علماً نافعاً للعدو مانعاً إنه قادر‏.‏

من أراد اصطفاء محبوب فالمحبوب نوعان‏:‏ امرأة يقصد منها حسن الصورة وصديق يقصد منه حسن المعنى‏.‏

فإذا أعجبتك صورة امرأة فتأمل خلالها الباطنة مديدة قبل أن يتعلق القلب بها تعلقاً محكماً فإن رأيتها كما تحب - وأصل ذلك كله الدين كما قال‏:‏ عليك بذات الدين - فمل إليها واستولدها‏.‏

وكن في ميلك معتدلاً فإنه من الغلط أن تظهر لمحبوبك المحبة فإنه يشتط عليك وتلقى منه الأذى والتجني والهجران والإذلال وطلب الإنفاق الكثير - وإن كانت تحبك - لأن هذا إنما يجتلبه حب الإدلال والتسلط على المقهور‏.‏

وثم نكتة عجيبة وهو أنك ربما عملت بمقتضى الحال الحاضرة وهي تحكم بكمال الحب ثم إن ذلك لا يثبت إليك فتقع وتبقى مقهوراً أو يصعب عليك الخلاص‏.‏

وربما تمكنت منك بمعرفة سرك أو بأخذ كثير من مالك‏.‏

ومن أحسن ما بلغني في هذا أن جارية لبعض الخلفاء كانت تحبه حباً شديداً ولا تظهر له ذلك فسألت عن هذا فقالت‏:‏ لو أظهرت ما عندي فجفاني هلكت قال الشاعر‏:‏ لا تظهرن مودة لحبيب فتى بعينك منه كل عجيب وكذا ينبغي أن تكتم بعض حبك للولد لأنه يتسلط عليك ويضيع مالك ويبالغ في الإدلال ويمتنع عن التعلم والتأدب‏.‏

وكذلك إذا اصطفيت صديقاً وخبرته فلا تخبره بكل ما عندك بل تعاهده بالإحسان كما تتعاهد الشجرة فإنها إذا كانت جيدة الأصل حسنت ثمرتها بالتعاهد ثم كن منه على حذر فقد تتغير الأحوال وقد قيل‏:‏ احذر عدوك مرة واحذر صديقك ألف مرة فلربما انقلب الصدي - ق فكان أدرى بالمضرة فصل السلوك مع البغيض وأما إذا أبغضت شخصاً لأنه يسوءك فلا تظهرن ذلك فإنك تنبهه على أخذ الحذر منك وتدعوه إلى المبارزة فيبالغ في حربك والاحتيال عليك بل ينبغي أن تظهر له الجميل إن قدرت وتبره ما استطعت حتى تنكسر معاداته بالحياء من بغضك‏.‏

فإن لم تطق فهجر جميل لأتبين فيه ما يؤذي‏.‏

ومتى سمعت منه كلمة قذعة فاجعل جوابها كلمة جميلة فهي أقوى في كف لسانه‏.‏

وكذلك جميع ما يخاف إظهاره فلا تتكلمن به فربما وقعت كلمة أسقطت بها عز السلطان فنقلت إليه فكانت سبب هلاكك‏.‏

أو عن صديق فكانت سبب عداوته أو صرت رهيناً لمن سمعها خائفاً أن يظهرها‏.‏

فالحزم كتمان الحب والبغض‏.‏

وكذا ينبغي أن تكتم سنك فلا تلغو به بين الناس فإن كنت كبيراً استهرموك وإن كنت صغيراً استحقروك‏.‏

وكذلك مقدار مالك فإنه إن كان كثيراً نسبوك في نفقتك إلى البخل‏.‏

وإن كان قليلاً طلبوا الراحة منك‏.‏

وكذلك المذهب فإنك إن أظهرته لم تأمن أن يسمعه مخالف فيقطع بكفرك‏.‏

وقد أنشدنا محمد بن عبد الباقي البزار‏.‏

احفظ لسانك لا تبح بثلاثة سنّ ومالٍ ما استطعت ومذهب فعلى الثلاثة تبتلى بثلاثة بمموه ومخرف ومكذب فصل خدمة الظالمين طال تعجبي من مؤمن بالله عز وجل مؤمن بجزائه يؤثر خدمة السلطان مع ما يرى منه من الجور الظاهر‏.‏

فواعجبا ما الذي يعجبه‏.‏

إن كان الذي يعجبه دنيوياً فليس ثم إلا أن يصاح بين يديه بسم الله وهو ما يريد إلا أن يتصدر في المجالس ويلوي عنقه كبراً على النظراء ويأخذ الأسحات وهو يعلم من أين حصل وربما انبسط في البراطيل‏.‏

ثم يقابل هذا أن يصادر ويعزل فتستخرج منه تلك المرارة من كل حلاوة كانت في الولاية‏.‏

وربما كان قريب الحال فافتقر بالمصادرة جداً ثم تنطلق الألسن المادحة بالذم‏.‏

ثم لو سلم من هذا فإنه لا يسلم من الرقيب له والحذر منه فهو كراكب البحر إن سلم بدنه من الغرق لم يسلم قلبه من الخوف‏.‏

وإن كان ديناً فإنه يعلم أنه لا يمكنونه في الغالب من العمل بمقتضى الدين إنهم يأمرونه بترك ما يجب وفعل ما لا يجوز فيذهب دينه على البارد‏.‏

ولعقاب الآخرة أشق‏.‏

العجب من الذي أنف الذل كيف لا يصبر على جلف الخبز ولا يتعرض لمنن الأنذال‏.‏

أتراه ما يعلم أنه ما بقي صاحب مروءة‏!‏ وأنه إن سأل سأل بخيلاً لا يعطي فإن أعطى نزراً فإنه يستعبد المعطي بذلك العمر‏.‏

ثم ذاك القدر النزر فيذهب عاجلاً وتبقى المنن والخجل ورؤية النفس بعين الاحتقار إذ صارت سائلة ورؤية المعطي بعين التعظيم أبداً‏.‏

ثم يوجب ذلك السكوت عن معائب المعطي والبدار إلى قضاء حقوقه وخدمته فيما يفي‏.‏

وأعجب من هذا من يقدر أن يستعبد الأحرار بقليل العطاء الفاني ولا يفعل فإن الحر لا يشترى إلا بالإحسان قال الشاعر‏:‏ تفضل على من شئت واعن بأمره فأنت ولو كان الأمير أميره وكن ذا غنى عن من تشاء من الورى ولو كان سلطاناً فأنت نظيره ومن كنت محتاجاً إليه وواقفاً على طمع منه فأنت أسيره فصل واجب الشباب ينبغي للصبي إذا بلغ ان يحذر كثرة الجماع ليبقى جوهره فيفيده في الكبر لأنه من الجائز كبره‏.‏

ومتى أنفق الحاصل وقت القدرة تأذى بالفقر إليه وقت الفاقة‏.‏

وليعلم ذو الدين والفهم أن المتعة إنما تكون بالقرب من الحبيب والقرب يحصل بالتقبيل والضم وذلك يقوي المحبة والمحبة يلذ وجودها والوطء ينقص المحبة ويعدم تلك اللذة‏.‏

وقد كان العرب يعشقون ولا يرون وطء المعشوق‏.‏

قال قائلهم إن نكح الحب فسد‏.‏

فأما الالتذاذ بنفس الوطء فشأن البهائم‏.‏

ولقد تأملت المراد من الوطء فوجدت فيه معنى عجيباً يخفى على كثير من الناس وهو أن النفس إذا عشقت شخصاً أحبت إلا القرب منه فهي تؤثر الضم والمعانقة لأنهما غاية في القرب‏.‏

ثم تريد قرباً يزيد على هذا فيقبل الخد‏.‏

ثم تطلب العرب من الروح فيقبل الفم لأنه منفذ إلى الروح‏.‏

ثم تطلب الزيادة فيمص لسان المحبوب وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوشح عائشة ويقبلها ويمص لسانها‏.‏

فإذا طلبت النفس زيادة في القرب إلى النفس استعملت الوطء‏.‏

فهذا سره المعنوي ويحصل منه الالتذاذ الحسي‏.‏

ليس على العوام أضر من سماعهم علم الكلام‏.‏

وإنما أن يحذر العوام من سماعه والخوض فيه كما يحذر الصبي من شاطىء النهر خوف الغرق‏.‏

وربما ظن العامي أن له قوة يدرك بها هذا وهو فاسد فإنه قد زل في هذا الخلق من العلماء فكيف العوام‏.‏

وما رأيت أحمق من جمهور قصاص زماننا فإنه يحضر عندهم العوام الغشم فلا ينهونهم عن خمر وزنا وغيبة ولا يعلمونهم أركان الصلاة ووظائف التعبد بل يملؤون الزمان بذكر الاستواء وتأويل الصفات وأن الكلام قائم بالذات فيتأذى بذلك من كان قلبه سليماً‏.‏

وإنما على العامي أن يؤمن بالأصول الخمسة بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ويقنع بما قال السلف‏:‏ القرآن كلام الله غير مخلوق‏.‏

والاستواء حق والكيف مجهول‏.‏

وليعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكلف الأعراب سوى مجرد الإيمان ولم تتكلم الصحابة في الجواهر والأعراض‏.‏

فمن مات على طريقهم مات مؤمناً سليماً من بدعة‏.‏

ومن تعرض لساحل البحر وهو لا يحسن السباحة فالظاهر غرقه‏.‏

أشد الناس جهلاً منهوم باللذات‏.‏

واللذات على ضربين مباحة ومحظورة‏.‏

فالمباحة لا يكاد يحصل منها بشيء إلا بضياع ما هو مهم من الدين‏.‏

فإذا حصلت منها حبة قارنها قنطار من الهم‏.‏

ثم لا تكاد تصفو في نفسها بل مكدراتها ألوف‏.‏

فإذا تصور عدمها بعد انقضائها وبقاء هذه الألوف المكدرة صار التصوير مغلصماً للهوى محزناً للنفس‏.‏

فإذا أنفت أنفت من الأسف على الدوام المستعبد وعرفت أنها لذة تغر الغمر وتهدم العمر وتديم الأسى‏.‏

ومع هذا فالمنهوم كلما عب من لذة طلب أختها‏.‏

وقد عرف جناية الأولى وخيانتها‏.‏

وهذا مرض العقل وداء الطبع‏.‏

فلا يزال هذا كذلك إلى أن يختطف بالموت فيلقى على بساط ندم لا يستدرك‏.‏

فالعجب ممن همته هكذا مع قصر العمر ثم لا يهتم بآخرته التي لذتها سليمة من شوائب منزهة عن معائب دائمة الأمد باقية ببقاء الأبد‏.‏

وإنما يحصل تقريب هذه بإبعاد تلك وعمران هذه بتخريب تلك‏.‏

فواعجباً لعاقل حصيف حسن التدبير فاته النظر في هذه الأحوال وغفل عن تمييز بين هذين الأمرين‏.‏

وإن كانت اللذة معصية انضم إلى ما ذكرناه عار الدنيا والفضيحة بين الخلق وعقوبة الحدود وعقاب الآخرة وغضب الحق سبحانه‏.‏

بالله إن المباحات تشغل عن تحصيل الفضائل فذم ذلك لبيان الحزم‏.‏

فكيف بالمحرمات التي هي غاية الرذائل‏.‏

نسأل الله عز وجل يقظة تحركنا إلى منافعنا‏.‏

وتزعجنا عن خوادعنا إنه قريب‏.‏

  فصل أسباب الخطأ

تأملت في الخلق وإذا هم في حالة عجيبة يكاد يقطع معها بفساد العقل‏.‏

وذلك أن الإنسان يسمع المواعظ وتذكر له الآخرة فيعلم صدق القائل فيبكي وينزعج على تفريطه ويعزم على الاستدراك ثم يتراخى عمله بمقتضى ما عزم عليه‏.‏

فإذا قيل له‏:‏ أتشك فيما وعدت به قال لا والله فيقال‏:‏ له فاعمل فينوي ذلك ثم يتوقف عن العمل‏.‏

ومن هذا الجنس تأخر الثلاثة الذين خلفوا ولم يكن لهم عذر وهم يعلمون قبح التأخر‏.‏

وكذلك كل عاص ومفرط‏.‏

فتأملت السبب مع أن الاعتقاد صحيح والفعل بطيء فإذا له ثلاثة أسباب‏.‏

أحدها رؤية الهوى العاجل فإن رؤيته تشغل عن الفكر فيما يجنيه‏.‏

والثاني التسويف بالتوبة فلو حضر العقل لحذر من آفات التأخير فربما هجم الموت ولم تحصل التوبة‏.‏

والعجب ممن يجوز سلب روحه قبل مضي ساعة ولا يعمل على الحزم غير أن الهوى يطيل الأمد وقد قال صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم‏:‏ صل صلاة مودع وهذا نهاية الدواء لهذا الداء فإنه من ظن أنه لا يبقى إلى صلاة أخرى جد واجتهد‏.‏

والثالث رجاء الرحمة فيرى العاصي يقول‏:‏ ربي رحيم وينسى أنه شديد العقاب‏.‏

ولو علم أن رحمته ليست رقة إذ لو كانت كذلك لما ذبح عصفوراً ولا آلم طفلاً وعقابه غير مأمون فإنه شرع قطع اليد الشريفة بسرقة خمسة دراهم‏.‏

فنسأل الله عز وجل أن يهب لنا حزماً يبت المصالح جزماً‏.‏

نظرت فيما روى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما لبس الخاتم ثم نزعه من يده ورمى به وكره أن يرى نفسه مزداناً بهذه الحلية‏.‏

وقال شغلني نظري إليكم ونظري إليه‏.‏

وتأملت كذلك في قوله‏:‏ بينما رجل يتبختر في حلته مرجلاً جمته خسف به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة‏.‏

فرأيت أنه لا ينبغي للمؤمن أن يلبس ثوباً معجباً ولا شيئاً من زينة لأن ذلك يوجب النظر إلى النفس بعين الإعجاب والنفس ينبغي أن تكون ذليلة للخالق‏.‏

وقد كان القدماء من أحبار بني إسرائيل يمشون على العصي لئلا يقع منهم بطر في المشي‏.‏

ولبست أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها درعاً لها فأعجبت به فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن الله لا ينظر إليك في حالتك هذه‏.‏

ولما لبس رسول الله صلى الله عليه وسلم خميصة لها أعلام قال‏:‏ ألهتني هذه عن صلاتي‏.‏

وهذا كله يوجب الإعراض عن الزينة وما يحرك إلى الفخر والزهو والعجب‏.‏

ولهذا حرم الحرير‏.‏

وأقول على أسباب هذا‏:‏ إن المرقعات التي يظهر فيها المتصوفة بالسوارك والتلميع ربما أوجبت زهو الملابس إما لحسنها في ذاتها أو لعلمه أنها تنبىء عنه بالتصوف والزهد‏.‏

وكذلك الخاتم في اليد وطول الأكمام والنعام الصرارة‏.‏

فينبغي للعاقل أن يتنبه بما قلت في دفع كل ما يحذر من شره‏.‏

وقد ركب ابن عمر نجيباً فأعجبه مشيه فنزل وقال يا نافع أخله في البدن‏.‏

  فصل الإقبال على الله

من أراد اجتماع همه وإصلاح قلبه فليحذر من مخالطة الناس في هذا الزمان فإنه قد كان يقع الاجتماع على ما ينفع ذكره فصار الاجتماع على ما يضر‏.‏

وقد جربت على نفسي مراراً أن أحصرها في بيت العزلة فتجتمع هي ويضاف إلى ذلك النظر في سير السلف فأرى العزلة حمية والنظر في سير القوم دواء واستعمال الدواء مع الحمية عن التخليط نافع‏.‏

فإذا فسحت لنفسي في مجالسة الناس ولقائهم تشتت القلب المجتمع ووقع الذهول عما كنت أراعيه وانتقش في القلب ما قد رأته العين وفي الضمير ما تسمعه الأذن وفي النفس ما تطمع في تحصيله من الدنيا‏.‏

وإذا جمهور المخالطين أرباب غفلة والطبع بمجالستهم يسرق من طباعهم‏.‏

فإذا عدت أطلب القلب لم أجده وأروم ذاك الحضور فأفقده فيبقى فؤادي في غمار ذلك وما فائدة تعريض البناء للنقض‏.‏

فإن دوام العزلة كالبناء والنظر في سير السلف يرفعه فإذا وقعت المخالطة انتقض ما بنى في مدة في لحظة‏.‏

وصعب التلاقي وضعف القلب‏.‏

ومن له فهم يعرض أمراض القلب وإعراضه عن صاحبه وخروج طائره من قفصه‏.‏

ولا يؤمن على هذا المريض أن يكون مرضه هذا سبب التلف ولا على هذا الطائر المحصور أن يقع في الشبكة‏.‏

وسبب مرض القلب أنه كان محمياً عن التخليط مغذواً بالعلم وسير السلف فخلط فلم يحتمل مزاجه فوقع المرض‏.‏

فالجد الجد فإنما هي أيام وما نرى من يلقى ولا من يؤخذ منه ولا من تنفع مجالسته إلا أن يكون نادراً ما أعرفه‏:‏ ما في الصحاب أخو وجد نطارحه حديث نجد ولا خل نجاريه فالزم خلوتك وراع - ما بقيت النفس - وإذا قلقت النفس مشتاقة إلى لقاء الخلق فاعلم أنها بعد كدرة فرضها ليصير لقاؤهم عندها مكروهاً‏.‏

ولو كان عندها شغل بالخالق لما أحبت الزحمة كما أن الذي يخلو بحبيبه لا يؤثر حضور ولو أنها عشقت طريق اليمن لم تلتفت إلى الشام‏.‏